الفنان حميد العطار أدرك الفن بفطرته. بمعنى كانت دوافعه طبقية خفية، لأنه تعامل مع المشاهد من باب الإحساس الفكري للوجود. ولعل مهنته محاميا، وضعته في صلب الرسالة الاجتماعية، وبالتالي في مركز اهتمامه بهموم الآخرين، ودوافع اهتماماته السياسية. ساعده في ذلك احتكاكه بجيل الرواد، وتتلمذه على يد الفنان القدير عطا صبري، ومزاملته فناني جيله، ما أكسبه مهارة أدت به إلى اختيار أسلوبه في الرسم.
إذ بدأ برسم ما يُشاهده ويحيطه في الحياة اليومية كالأسواق والمحلات الشعبية والطبيعة بسحرها. وكانت تخطيطاته لترجمة ملحمة «جلجامش» للعلامة طه باقر خير فرصة لتمثل حضارة عريقة، منحت مخيلته آفاقا في عكس ما يدور في الملحمة من أحداث وتطور البنى الفكرية، ووضعته ضمن حقل النحت، وبصّرته ببنية الصراعات الدائرة في حاضرة (أُوروك)، بما قربته تخطيطاته لمشاهدها، من النهج الذي اتبعه في مراحل متقدمة من حياته الفنية، أي ألغى التفاصيل في اللوحة والاكتفاء بالعلامات المعبرة عن الظواهر.
كل تلك الممارسات منحته فكراً معتدلاً ورصيناً وثابتاً، لازمه حتى رحيله، كذلك أكسبته التجربة والاطلاع حيازة رؤى نقدية في الفن، هي خلاصة تجربته في الحياة خاصة والوجود بعامة.
مفارقات الوجود
لا يتوارى العطار خلال لوحته، إلا خلف دالة فكرية واضحة وذات تأثير مباشر على التفاصيل. فهو يأخذ به كمتن جدلي يُحرك عبره الأجزاء المتظافرة مع الكليات. وما التركيز على الإنسان ضمن حالات ــ الرُعب والانتهاك الجسدي، كذلك التقارب بين فن الرسم وفن النحت ــ سوى العمل على تجسيد الملامح المتروكة قسراً على الجسد. ولعل هذا تطلب من الفنان تعدد الحالات الدالة على تعدد وتعاقب الأزمنة. وكأنه يقول بخفاء وعلن: حدث هذا ويحدث، وسوف يحدث في كل الأزمنة، ما زال الخلل مستشريا في الحياة السياسية والاجتماعية، وما زالت قاعدة الحياة هشة وقانون التحكم بالوجود والإنسان يرتكز على الأخذ والاستلاب، دون العطاء.
كما يعبّر بلوحته عن مفارقات الوجود الاجتماعي والسياسي خارج إطار التفاصيل، حيث يعتمد العلامات المتروكة على الجسد جراء الجور في الوجود، ويروي تاريخا بدون التفاصيل. كما هي إشارات السجن والقيد، فثنائية البراءة والوحشية متجسدة في معظم نماذجه، لأنها أساساً تتناول هذه البنيات المتعددة. إن اعتماده على الإشارات دفعته إلى اعتبارها أبجدية سردية في اللوحة، فقد استفاد من فعل تخطيطاته لملحمة جلجامش، لأنها أضافت له رؤى واسعة بعد الاطلاع على محتواها، ومنه الفكري والاجتماعي والديني. إذ كانت تخطيطاته تعبيرية تؤكد فعل الإشارة بالخط دون التفاصيل، أي أنها تفاصيل ذات بنية إشارية. أما في مجال وجود المرأة، فقد عالج أنوثة الجسد بكل وقار، فاهتم بالبنية المشكلة للجسد، والتأثيرات الخارجة عنه، حيث وضعنا ضمن دائرة الصراع الاجتماعي حصراً، كذلك عالج ثنائية الوجود الأزلي (الذكورة، الأُنوثة) والعلاقات القائمة على التعادل والتوازي السمات الأسلوبية .
يأتي توظيف حميد العطار للألوان من قدرته على مزجها بكفاءة وتقدير نِسَبْ، فهو لا يعتمد اللون مباشرة، أو كما هو في تشكله، وإنما يستخلص من مجموع الألوان لوناً يؤكد على قدرته على التعبير الحيوي عما يفكر به ويراه في الواقع.
السمة الظاهرة على لوحات الفنان، كونها خضعت للمحرك الأساس الذي يشكل المقياس الفكري لبنية العقل الفني، لذا نرى في ما أنتجه الفنان علاقة جدلية بين ما يعتقد أنه الأساس لتشكله المعرفي، الذي يفيض على مكونه الوجودي. إن لوحاته ذات محمولات تُشير إلى معالجات الأنثروبولوجي، حيث تأخذ بنظر الاعتبار المؤثرات الطبقية والتسلط الاجتماعي والسياسي، خاصة في ما يهم المرأة، فلوحته تتشكل من طبقات، بمعنى سرديات متواصلة، تتمركز فيها الطبقة أو الحيز على السطح، ضمن تشكل ذاتي، أي تسرد ما يدور من رؤى وحالات. ثم إن هذه المحتويات تتصل مع وجود طبقة أُخرى، لتشكل بانوراما. فالجورونيكا مثلاً اعتمدت على مجموعة علامات، دالة على معاني متعددة. والعطار يعمد إلى توظيف الحراك المتعدد ضمن هذه الطبقات، ليمنحنا معاني مختلفة، لكنها على تقارب، بسبب اتكائها على بنية فكرية موحدة ومركزية. فهو فنان منتم للخاص والعام. كما هي سيرته وعطاؤه الفني. كما أنه يميل إلى توظيف الرموز الأُسطورية، بما تملي عليه بنيته الفكرية. فالسياق والمتن التاريخي محتشد بالرموز والعلامات التي من شأنها بلورت معنى معينا يتخفى وراء القناع. وهذا لم يكن بمثابة صياغة لأجل الهروب من سلطة الرقيب وحسب، بل إنه علامة تُغني النص بمختلف توجهاته. والفنان مارس مثل هذا التوظيف خارج بلده، حيث تتوفر مساحة الحرية الفكرية والإبداعية. فهو لا يخضع نتاجه سوى لسلطة الإبداع والعمل على تحقيق ما يُفكر به ويعتقد أنه مؤشر حسي ووجداني. كذلك تعد النُدب المتروكة على الجسد سمة فنية تمنح المتلقي عوالم تتصل بجدلية الوجود والانتهاك، لأنها دالة على وحشية التعامل. لعل البنية الاجتماعية والسياسية، السبب الرئيسي لذلك. كما أن توظيف الألوان التي تميل إلى الحرق والتعتيق يعني بها شدة التأثيرات الاجتماعية والسياسية مركزها حصراً.
التوظيف اللوني
يأتي توظيف حميد العطار للألوان من قدرته على مزجها بكفاءة وتقدير نِسَبْ، فهو لا يعتمد اللون مباشرة، أو كما هو في تشكله، وإنما يستخلص من مجموع الألوان لوناً يؤكد على قدرته على التعبير الحيوي عما يفكر به ويراه في الواقع. فهو كفنان يجد في حراك الواقع سبيلاً مختلفاً عن الآخر. فكيف يكون التوظيف إن لم يُحقق الرؤية الذاتية، لأنها الوسيلة الخالقة للأُسلوب الفني. فهو دؤوب لخلق توجهه الفني شأنه شأن من سبقوه، مسايراً التجدد والتبدل والمتغير، كما هو النهر بمائه وجريانه.
ألوان الفنان هادئة نسبياً، لكنها شديدة الحرص على التعبير عن الظواهر، بل عن الإنسان حصراً. وما اختياره لطبقات اللوحة الواحدة، إلا لتوسيع مساحة تعبيرها. وبالتالي ترتبط بما يجاورها عمودياً أو أُفقياً، فهي وحدات سردية بصرية، كل ذلك مدعاة لخلق سردية تتناول التفاصيل بعيـــنات حيوية لتعبر عن ظاهرة معينة، ذلك لأن الأجزاء ذات حركة معبرة عن ظاهـــــرة عامة، أو هي جزئية لظاهرة مركزية، كما هي جزئية معالجة الجسد الأُنثوي. ويدخل هذا في الأُطر التي يوظفها لعكس المحتوى، وهي أُطر تميل إلى السواد. للوحة ذاكرة مقسمة على سرديات متعددة، ونماذجه تتفاعل في وجودهم، الزحمة والتمثل لما جرى للإنسان، وهو حبيس التسلط المتشعب المصادر، الذي يحمله طاقة تفوق التحمل، فلوحاته بمثابة مدونة لا تنقطع فيها الصور.