حفظت ذاكرتي ملامح الاعمال الفنية التي كان الفنان الراحل حميد العطار, يشارك بها في المعارض الفنية في بغداد, منذ منتصف العقد السابع من القرن الماضي, فقد كانت تلك الاعمال الفنية مصنوعة بعناية واتقان ضمن صياغات فنية تزاوج بين فني النحت والرسم, وكان يهم الفنان التأكيد على المواضيع المجترحة من النصوص الادبية في حضارات وادي الرافدين, بل وكان يكرس جهودا خاصة لمحاكاة الاساطير والقصص والاشعار العراقية في الازمنة السحيقة, وموضوع ملحمة (كلكامش), كان من اولويات بحوثه الفنية, حتى ان الدكتور العلامة (طه باقر) اختار ان تكون رسومات الفنان حميد العطار معبرا صوريا عن النصوص الادبية التي ترجمها مباشرة عن النصوص السومرية, وجاءت تلك الرسومات بمثابة تعليقات صورية مبهرة ومثيرة للإعجاب ليس لأنها ترديدا امينا للنصوص, لأنها ليست وسائل ايضاح, بل ولأنها ضرب من الفن القائم بذاته ولذاته, وتتجلى اهمية الرسومات المصاحبة للنصوص الأدبية في كونها سياق تكميلي ليس القصد منه ايضاح الفهم وتقريب المغزى, بل انها عملية مشاركة ابداعية بين الأديب والفنان والخروج بحصيلة فنية متكافئة ومتعادلة, من هذا المنطلق فان كفتي الميزان تعادلت بين المبدعين العراقيين الراحلين طه باقر وحميد العطار.
لقد اتاحت لي عائلة الفنان حميد العطار, فرصة الاطلاع المباشر على مجموعة كبيرة من الاعمال الفنية, والتي جاءت بها العائلة من (لندن) بعد وفاته لأغراض حفظها وإقامة معرض شخصي, إستعادي كبير في بغداد وإنجاز كتاب فني كبير يليق بتجارب الفنان في مراحل حياته المختلفة, وبصراحة كانت صدمة الرؤية الأولى عند معاينتي لهذه المجموعة الفنية المثيرة للدهشة, وبذا انقلبت معادلة الفهم عندي وتزحزحت معيارية السياق المعتاد وفق الانطباع السابق الراسخ في حيز الذاكرة البعيدة, كيف لنا تقريب الفهم عن الاطر الشخصية والموقف الفني للفنان حميد العطار؟
لابد من الإشارة الى نقاط حاسمة واساسية, وهي:
ان الفنان اختار العمل على الفن بهدوء وصمت طيلة فترة زمنية قد تمتد لأكثر من اربعين سنة, بعيدا عن الاضواء الاعلامية, حتى ان طلبة واساتذة الفنون لم يتعرفوا عليه بشكل جيد إلا من خلال ما هو موثق له عبر بعض النشر في الكتب والمجلات وادلة المعارض القديمة, وليس ثمة تحديث رؤيوي او نقدي جديد منشور عن تجارب هذا الفنان الكبير, واعتقد بان لهذه الحالة مسببات تتعلق بطبيعة النظم الادارية للدولة العراقية منذ سنة هجرته من البلاد ولغاية تاريخ رحيله, وكما نعرف بان الفنان حميد العطار, كان يحرص على وضوح افكاره ويعلن عن انسانيته من خلال عمله كمحامي ورجل حقوقي ومن خلال فنه الذي بقي طي النسيان لسنوات طويلة, ونعرف ايضا بان المؤسسات الفنية والثقافية في العراق كانت طاردة للمبدعين الاحرار, ممن لا يتسايرون مع الواقع الحياتي الفج وانعدام حرية التعبير, ولان الفنان ارتضى لنفسه مواقف انسانية مقترنة بالمنحى الفكري والفلسفي والجمالي المختلف تماما عما كان سائدا, فإنه اثر ترك فسحة البلاد والإقامة في بريطانيا بعيدا عن الوطن, ويبدو لي بانه حجم من علاقاته الاجتماعية ولكن قضايا الوطن والمستجدات السياسية المرتبكة واهوال الاحداث والمفارقات كانت تؤرقه وتعيش معه في كل لحظة, وكان يتابع الاحداث والمتغيرات التي تجري في العراق اولا بأول, ويستقصي المعلومات على نحو حثيث وقريب, ولم لا وهو ذلك الرجل الوطني الذي وثق لتأريخه المشرف بمواقف عديدة وتعرض خلال حياته للمساءلة القانونية واتهم بولائه للأحزاب الوطنية, وهذا السرد الاولي المختصر مفتاح الفهم لطبيعته الشخصية.
ذات مرة أجريت مقابلة موسعة مع الفنان الراحل محمد مهر الدين ونشرتها في احد اعداد مجلة (الثقافة الجديدة) فقال:
ان رائد الحداثة في الفنون التشكيلية العراقية المعاصرة هو الفنان حميد العطار, لأنه استطاع اختراق تاريخ الفنون التشكيلية من خلال توظيف المواد الخام الجديدة واستثمار طاقة المواضيع المفتوحة التي تقبل القراءة البصرية على انحاء متعددة.
نعم, لقد كانت اعماله الفنية تعد كشفا جديدا وغير مسبوقا لأنها كانت تتسم بالطابع الجدي من حيث سبل الاداء الفني والتقني ومن حيث ابتكار الاشكال المتضمنة توزيعا منطقيا للمفردات والوحدات الصورية وبعض التراكيب واضفاء الطابع اللوني والخطي على الملامح المصنوعة بمواد خام جديدة مثل اللواصق الكثيفة واستخدام الاسلاك والالياف والخشب والحديد والورق بحيث يبدو عمله الفني يشبه المجسدات النحتية ببعدين او ثلاثة ابعاد, غير انها مؤلفة على الاسس السليمة في فن التصميم, وعلى هذا الاساس فانه منح المواد الخام الجديدة ابعادا اضافية اخرى, ومن المتعارف عليه بان المواد الخام وفي احسن تعريفاتها تمثل وسائط الفنان للبوح والتعبير عما يفاعل ذاته ويؤثر في افكاره وتخيله ومن هنا ينطلق سؤال المواد الخام الجديدة والجرأة والمغامرة في هذا الاجراء الفني اللافت للانتباه, لاسيما اذا عرفنا بان هذه التجاوزات الفنية كانت متبلورة منذ منتصف العقد السادس من القرن المنصرم وبقي مستمرا عليها حتى غادر الحياة.
ماهي السمات المميزة في اعماله الفنية الاخيرة؟
ان احد اهم السمات في اعماله الفنية الاخيرة, تكمن في انتقاء المواضيع التي نطلق عليها بالمواضيع الازلية او الباقية على الدوام (ثنائيات التضاد) ونقصد بها مواضيع الحياة والموت, والحب والكراهية, والبطولة الخذلان والحق والباطل والجمال والقبح, وهذه الانماط من الرؤى تمثل مواقفا جديرة بالانتباه لأنها نطقا بليغا بالمعاني الانسانية المتوجة بالعاطفة والحب وصولا الى المغزى الجمالي الابعد, والفنان يفكر قبل ان يحرر عمله من مخيلته, فهو يعرف ما يريد ويقصد بالدقة المتناهية الاهداف التي ينشد الوصول لبلوغها, إلا ان سياق الانجاز الفني العام الذي يوحد بين جميع اعماله الفنية يكون في تقسم العمل الى مقاطع هندسية في الطول او العرض ومن ثم يقوم بتنظيم التوزيع للوحدات والمفردات الصورية وفي الغالب تكون مفردات ادمية مموهة ولكنها تبقي على بعض ملامحها واجزائها وربما نجد ملمحا لإنسان مكبل بالسلاسل وان عضلات يديه شاخصة بوضوح ولكن راسه مفقودا او قد نجد فتاة ملقاة على السرير في وضع مريب وكل اجزاء جسدها واضحة ولكنها توحي بالولادة والصراخ بينما نجد في المقطع السفلي امها ترفع يديها للسماء تضرعا للخالق ان يحقق سلامتها ومثل هذا الإنشاء التصويري يمثل حوارا داخليا مفعما بالعاطفة الحرى والامل والرجاء وفي ذات الوقت فانه يمثل سردا قصصيا لحكاية عن الامومة والخلق الجديد, وفي انشاء تصويري اخر يجسد فيه حالة رجل كهل يقف بوجوم واضعا كفيه على بعضهما وكأنه ميت غير ان التكوين الطولي منحه طباعا حياتيا ولو اننا نقلب معادلة التكوين الطولي المجسد بالباب المفتوح وجعلناه تكوينا افقيا لاستحال الباب الى تابوت, وفي انشاء تصويري ثالث يجسد فيه الفنان حميد العطار نسوة عاريات وتتضح كل معالم الجسد بإثارة بصرية ودقة متناهية لرسم وتجسيد التفاصيل والاجزاء وعلى مسافة ابعد تتضح صورة (انكيدو) نظير (كلكامش) في الخلق وهو يؤدي رقصة مع البغي المقدس على وفق ما جاء في ملحمة (كلكامش) وهذا البغي المقدس هو الذي تسبب في أنسنة (انكيدو) بعد ان هجرته كل حيوانات الغابة.
لعل القارئ يستخلص من خلال هذه المواضيع سبل التفكر التي كانت تثير مخيلة الفنان حميد العطار وتدفعه لمناغمتها وتجسيدها على نحو بارع وخلاق, وسرعان ما نكتشف بان الفنان كان غزيرا في قراءاته للكتب الفلسفية ومطلع على التراث الوطني بكل ماضيه وحاضره, وبذا فإننا حين نعمل على بيان رؤيته ومواقفه وسبل إدائه الفني والمواد الخام التي يوظفها في بنية العمل والاشكال التي يبتكرها, كل ذلك من شانه الاسهام بتقريب الفهم لفن هذا الفنان العراقي الكبير الذي حفر اسمه عميقا في ذاكرة الفنون التشكيلية العراقية المعاصرة واضفى جديدا على مسارات الفنون.