حميد العطار .. غواية الأسطورة .. وروح الرسم

عاصم عبد الأمير

ناقد عراقي

فنان مثير للاهتمام ضمن موجة التحديث الصاخبة التي تلت الأزمات الكبرى التي أضطلع بها جيل الحداثة الثاني أبان الخمسينات ، عرفناه في نجاحاته يصهر الرسومية بالنحت في سياق رؤية متفجرة بالمغايرة مع إستجلاب موحيات منتقاة من حضارته الشخصية والثقافية .
نزعة المشاكسة هذه سايرت أطروحة التأصيل للفن العراقي لتسعى وبلا هوادة في بحر الستينات ، مع سعيهم الحثيث لأخراج الرسم العراقي من الموجة التسجيلية والوصفية التي هام رياديو أوائل القرن العشرين، لكن هذه المرة على وفق مشاغل جيل آثر التلامس مع معطيات وهواجس تعديل وتوجيه بوصلة الرسم العراقي بأتجاه الأقامة الى جوار المناقب الأسطورية الأولى ، وتحرير الخطاب الرسموي من إيقاعه الميكانيكي والأتباعي على السواء .
لقد كرس – العطار – جهده مع ممكانته الفكرية والتقنية لغرض العثور على رواسم للهوية ستظل ملهمة له ولوعيه الحضاري ، بعد أن فرغ من رسومه المستوحاة من مشاهد الصخب المديني التي عرف بها أبان الخمسينات، ثم نزوعه نحو الطرز الزخرفية التي تطبع على البسط الشعبية بجمالها الزاخر، وزخمها العاطفي مع ميول واضحة لمجاورات من الصور التي تتحد في مشهدية واحدة، بعضها يجذب الأخر في وحد بصرية ، مع تصعيد في توظيف الخامات الخشنة بسحنتها الترابية ، والمعدنية التي ذاعت لفرديتها في التحديث، ربما لمسايرة كنوز الحضارة الررافدينية ذات الأصل الغريني ، وهي دفعته للإقامة طويلا عند منابع الحضارة العراقية القديمة، حتى في أعماله الأخيرة قبيل رحيله ، لكنه ومع كل تجربة يعرض اغوائته الأدائية وحلوله الفريدة في التعامل مع الفضاء التصويري بالطريقة التي تجعل رؤيته لاتحيد عن مرجعياتها ، مع الرغبة في اطلاق العنان لمخيلة حرة ليجلب لنا أسرار التشكيل ونوادر الصياغات المفتونة بحرية التعبير والمشاعر المرابضة عند تخوم فضائه الأبداعي .
حميد العطار ، بعدئذ من خلال منجزه الشامل يسدس المشورة بلا تحفظ للسير وراء الرواسم التي حافظت على نسقيتها الجمالية في وعينا الجمعي، محرزا نجاحات تلو الأخرى، محافظا بدأب على دوره الريادي في إبقاء شحنة التنوير متقدة وبطرائق أسلوبية تتظافر في رؤية جامعة لجدل الشعور واللاشعور ، عبر مشاهد فاتنة وغرائبية، وبخيال تركيبي مدعم بتقنية الكولاج لصور تجمع المشاهد مع بعضها مشكلة تركيبة جمالية نادرة التكرار.
منجزه بالأعم الأغلب ليس عضوا لخاطر ، ثمة وعي شخصي يحدد مسار الكتل وحفريات الخطاب ليهبنا أسرار البناء الفني المنبثق من إرادة حرة، استرجاعية ضمن سياق رغبة في أحداث دوي مصاحب تبقيها حية عند وعيه البكري للاسطورة .

أسطورة تلد أخرى:

ثمة قوى ذاتية تدفع – العطار – لأبتكار لغة للتخاطب لا يجاريها أحد، وفيها من يعمق ماهو خلف مراجعاته الأسطورية التي تبقيه في لبة الحوار الثقافي لا حواشيه.
تطلعه الدؤوب في أستثمار مناخات ماهو غرائبي تضعه في مسار يقفز فيه على ماهو متداول ضمن تراكيب لاعهد لنا فيمن سبقه في حقل الكشوفات البصرية المرنة ، أنه لاعب ماهر في دمج البنى الجمالية بالدلالية، الحسية ، بما فوق الحسية ، وليس مهما مجاراة التوصلات الأسطورية في بعدها التأريخي ، إنما أشهار قراءاته الذاتية بوصفها فضاءات مجازية تحتمل بدائل التخاطب الرمزي ، الأدائي على السواء.
هواجسه الشخصية العارمة، تبدو كافية لأشهار رؤية مفارقة قابلة على الحياة في محيطها بطابعه الخشن ، من خلال خامته المستحدثة التي تصبح وجها ناصعا لأنفعالات قوية أزاء الأسطورة بعيدا عن السطحية أو الأستعراض الملفق.
ثمة طاقة كامنة في أعماله يؤججها رصيد شعوري لافت، تدفعه قدما لأعادة الثيمات الأسطورية ومنحها أرادية بصرية يذيب فردانيته فيها، جاعلا منها قوة جذب لأستعادة مشروع الهوية كقيمة وجودية تبعده الهجانة، واللهاث وراء أوهام الحداثة، واستجداء أغواءاتها، رسومه فوق هذا وذاك ، تمثل معادلا وجدانيا، وواجهة لذاكرة لها القدرة في استحضار المواقف، والنماذج الجمالية في سياق رؤية تبدد الشكوك في جدوى العودة الى الأصول .
يستحضر – العطار – بعدئذ قوة الأيحاء عبر التخاطب الأشاري الذي تلوح به نماذج في بعدها الشخوصي ، ومنها المرأة التي تسهم في تسريد وصلات تشكيلية محبكة تجعل منها مصدرا للخصب، لكنها أقل غواية ، فهي تظهر بعيدة عن محمولات الأيروسية، كما هي العادة في رسوم الكثير ممن شغفوا في الجسدية الأنوثية كخطاب يصل الى غاية الأثارة الحسية بلا مشقة. لكأنه يديم زخم الشعور بأزاحة الفعل الوظيفي للجسد، ويصبح فضاء جماليا وأخلاقيا .. يقوي الثقة فيما يفعله الرسم حين يتحول الى شاهد على جريمة حصلت، عبر شخوصه بوجوههم المذعورة الذين ينظرون بفزع لهول مايحدث في عالمنا الملتبس .
مشاهده تنظم بوحدة دلالية، تبعد خطابه من الوجهة التقريرة أو الحاجات العرضية الأنية للتكوين والتي تخل بنسقية الثيم الأحتفائية بالمرأة ، واندحار الأنوثة كقيمة أنسانية أزاء تعاظم الفحولة وسلطتها الجائرة. ف – العطار – يؤثر فضح إختلال القيم في عروض صورية فاتنة توصل فكرة الأنتماء لهوية الأنسان، كمسَلمة لايحيد عنها ضمن مسار شغفه الذي دشنه منذ الستينات، أنه ببساطة رسام ثيم أسطورية تديم الأحساس برصانة خطاب يدرك وجهته بلا وصايا ، مستعيدا من خلاله لذة المجاورة للأصول، دون الحاجة لأستيراد صورة مستوردة تفقده قوة الترابط مع الذائقة ، أبطاله المحاطين بالحرية والأمل ، ونساءه المليئات بالطهرانية، والألهام ليس إلا رسائل رامزة لروح رسام يضع مشروعه الجمالي لمصلحة القيم السامية في لجة الصراع بين الخير والشر.

الخامة بوصفها نصاً:

يتعذر فهم خبايا خطابات – حميد العطار – الرسومية دون معرفة لغز تشكلها، فهي بالمجمل تمثل منظومة من التصورات التي تتظافر على المنوال الذي يجعلها أكثر ملامسة لحاجتنا في أستعادة الجمال الكامن فيما خلف التواريخ، وكأي مبدع أصيل يعمل على مهل لبث مواجعه الوجدانية ، والأخلاقية في سياق التجنيس، الذي يحول الرسم الى روح النحت، وليس العكس ففي الأيقاع الكتلي للاشكال المتاحة، تكمن لنشوة الخيال، واللعب على الخامات في تصاعد تدعمه الألوان لتكثيف الصور الدلالية التي تعود بنا القهقرى الى ماكان يفعله مبدعو سومر ، بأيداعهم الروح السرية في الطين، مادة التدوين الأولى والأكثر مضاءً في أحتمال لغة المجاز، والتعبير عن المشاعر المضمرة.. ف – العطار – ليس ممن يستنسخ موارده الفكرية والجمالية ، فهي وليدة أشتباك عضوي مع بيئته الثقافية الزاخرة بمشاهد الصور حول لغز الوجود، وكفاح الأنسان ، والوعد بنصر الأرادة.
أذا فأن رسوم – العطار – لها مذاق خاص تخرج المتلقي عن أفق توقعه عبر مشاهدة فورية للأساطير التي يجلبها خيال فنان حر، وطليق المشاعر.
يبدو أن التعامل مع خاماته الخشنة يولد مايكفي من الأحساس العميق في معنى الأبقاء على روح البناء التشكيلي ، والسير قدما بحثا عن مصادر تؤمن غواية القراءة في خرائط الأسطورة، ويبدو في مكوثه هذا كمن يصعد السلم دون أن يمتلكه الأنهاك.
العودة الى الغرينية في أعمال – العطار – تمثل لي على الأقل حاجة أصيلة تسهم في ربط مشروعه الأبداعي بقوة مع لحظة التنوير الستيني حين قيض لهذا الجيل إحداث مراجعات لازمة لتقويض المشروع الأجتماعي أو الوثائقي الذي هام به كثيرون من الخمسينيين ، الى جانب زيادة الثقة بالمحيط القيمي، والأبقاء على قيمة الخطاب الفني بوصفه روحا غير ملتبسة وتلهم الأخرين باحترام رؤى تؤمن بمشروع الهوية .
حميد العطار ، نحات بهيئة رسام قادم من المغارات الأولى ، رسام متصالح مع أرثه الحضاري، لايظهر رغبة بلهاء للقفز في فراغ لاطائل من ورائه، ثمة روح عذبة آتية من عصور ماقبل التدوين تهب خطابه سحر الفن ومغزاه. رسومه المغايرة تقدمه كصوت أبداعي حر ينتصر للمرأة، فهي عشتار التي تولد مجدداً، وإن تبدو بروح كسيرة شعثاء الشعر ، ومهدمة.