التشكيلي والمحامي حميد العطار

فنان ظلَّ يستنشقُ العراقَ حتى رحيله

رغم أني لستُ بفنانٍ، ومن بابٍ أولى لست بناقد تشكيلي،

أجدني ملزماً بالوفاءِ لذكرى صديق عزيز عليَّ .. نشأنا سوية

وامتدت علاقتنا لعقود ، حتى رحيله الأبدي عن هذه الدنيا .

سأحاول تدوين بعض مما حَوَته ذاكرتي عن هذا الفنان والإنسان المتميز ، علَّها تسلّطُ بعضاً من ضوء على فنان تشكيلي من بلادي ، لم يحظَ ، شأنه شأن العديد من الفنانين والفنانات والمبدعين والمبدعات الذين رحلوا بصمت دون “ضجيج” ، أقولُ لم يحظوا بما يستحقون من الدراسة والتقييم ، ناهيكم عن الاحتفاء والتكريم ، الذي تمتاز بها المجتمعات المتحضرة !!         

 الولادة والطفولة والصبا

 الولادة والطفولة والصبا

ولد حميد مجيد حبيب العطار في عائلة متوسطة الحال في ربيع عام 1933 بمدينة كربلاء ، بمحلة العباسية ، في دار جدّه لأمه السيد حمزة المختار ، مختار المحلة ذاتها حينذاك. كان الأب مجيد الحاج حبيب العطار يعمل لدى والده في إدارة معملٍ صغيرٍ لإنتاج المياه الغازية ، وكان يطلق عليها بـ “السودة والسيفون” ، وكانت أمه ، السيدة صديقة المختار ، تمتهن الخياطة والتطريز. كان دار حمزة المختار واسعاً نسبياً يضم مجموعة كبيرة من الغرف التي وزعت على خمسة إناث وثلاثة ذكور ، هم بنات وأبناء حمزة المختار ، إذ كان بعضهن يعشن مع أزواجهن ، وبعض الذكور مع زوجاتهم ، في تلك الدار إلى أن تتوفر الإمكانية لمن يمكنه أو يرغب في الانتقال إلى دارٍ أخرى.
ولد لعائلة مجيد حبيب وصديقة حمزة أبنهما البكر وسمي محمود ، الذي توفي بعد فترة قصيرة من ولادته. ثم انجبت أمه طفلها الثاني حميد ، وبعدها بسنتين أنجبت طفلتها سميرة. بعد ست سنوات من الزواج توفي الأب مجيد الحاج حبيب العطار مبكراً ، وكان حميد ما يزال في الثالثة أو الرابعة من عمره ، بعد أن أصيب الأب بداء السل ، الذي كان منتشراً في العراق حينذاك واختطف كثرة من شبيبة البلاد ، ولم يكن مجيد قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره. ولم ينفع إرساله إلى إيران للعلاج والعيش لفترة في منطقة شمرانات الجبلية ذات المناخ الطيب والطبيعة الجميلة قرب طهران. ترملت الأم صديقة حمزة المختار ، وهي ما تزال شابة يافعة وأصبحت مسؤولة عن تربية طفليها ، ولم يكن الجد ، الحاج حبيب ملا عبد العطار ، رغم غناه المالي ، قد أبدى المسؤولية الواجبة والرعاية الكافية والضرورية ، بل ولا حتى الحد الأدنى لزوجة ابنه الفقيد وطفليها. لقد كان الجد إنساناً بخيلاً وغير منصف. فاعتمدت أم حميد وسميرة على نفسها في تدبير شؤون العائلة من خلال مهنة الخياطة والتطريز في دار أبيها وبدعم ومساعدة منه. لقد ضحَّت الأم بشبابها من أجلهما دون تردد ، رغم طلبات الزواج التي انهالت عليها بسبب صغر سنها وجمالها وفقدانها لزوجها مبكراً ومكانة العائلة ووالدها حمزة المختار المحترمة في المحلة والمدينة.
كان المعمل الصغير الذي يديره مجيد الحاج حبيب العطار ، والد حميد ، يقع ضمن معمل كبير يعود لوالده أيضاً ينتج قوالب كبيرة من الثلج ، إلى جانب مكائن لطحن الحبوب. وقد أغلق المعمل الصغير بعد وفاة مجيد مباشرة.
وفرَّت الوالدة لطفليها كل ما يمكن أن توفره أم حنون واعية لمسؤوليتها من وسائل العيش الكريم والتربية الحميدة والتعليم في المدارس الرسمية الحديثة حينذاك. فتمتعا بحياة الطفولة في جو عائلة كبيرة وبعلاقات حميمية. فأنهيا تعليمهما الابتدائي في مدارس كربلاء الابتدائية في محلة العباسية.
اتخذ حميد لقب المختار في بداية صباه ثم استبدله بقلب العطار عن جده لوالده ، الذي كان يمتلك محلاً للعطارة في بدايات حياته المهنية ، ولم يستخدم لقب العشيرة التي ينتمي إليها الحاج حبيب الملا عبد ، عشيرة البياتي ، القسم العربي منها ، في أي وقت من الأوقات ، لأن الحاج حبيب ذاته لم يستخدم لقب العشيرة مطلقاً. كان مجيد هو الأبن البكر لزوجته الأولى التي توفيت بعد أن خلَّفت له ابنة هي الآنسة صديقة التي توفيت عام 1951 في كربلاء. 
بعد التعليم الابتدائي أنهى حميد الدراسة المتوسطة والثانوية (القسم الأدبي) في ثانوية مدينة كربلاء عام 1951/1952 ، وانتقل بعدها إلى بغداد وسجل في كلية الحقوق وأنهى دراسته فيها عام 1955. ومنذ نعومة اظفاره لاحظت أمه هوايته في الرسم ، فبدأت توفر له أدوات الرسم الأولية ، لاسيما بعد إنهاء التعليم الابتدائي. وكان معلم الرسم في المدرسة الابتدائية ، ومن ثم في الثانوية قد أبديا اهتماماً بموهبة حميد الفطرية في الرسم وفي الخط الجميل الذي تميز به أيضاً.
كان حميد أكبر مني بسنتين ، فأنا عمه الصغير ، الذي ولد للزوجة الثانية للحاج حبيب الملا عبد ، السيدة فاطمة حسين ، التي تزوجها بعد وفاة زوجته الأولى ، والتي انجبت منه ابنتين وولدين ، وكنت أخر العنقود وخاتمة المطاف ، علماً بأن الحاج حبيب كان رجلاً مزواجاً ، إذ تزوج أربع نساء في آن واحد ، وامرأة أخرى إيرانية الجنسية اتخذها زوجة مؤقتة على طريقة “المتعة” المعروفة في الإسلام ولدى أتباع المذهب الشيعي ، إن هذه القرابة العائلية من جهة ، وفرق العمر القليل والشكوى المشتركة من الأب أو الجد البخيل من جهة أخرى ، قد قربتنا لبعضنا كثيراً وجعلت منا صديقين حميمين كنا نقضي أوقاتاً جميلة مع بعضنا ، لاسيما في أشهر العطل الدراسية الصيفية.
لم يظهر على حميد أي نشاط سياسي مباشر في فترة الدراسة المتوسطة والثانوية ، إلا أن المتتبع لأفكاره العامة ولوحاته التشكيلية التي رسمها في المدرسة الثانوية وعرضت في معارض المدرسة ، تشير بوضوح إلى تأثره الشديد بأوضاع العراق السياسية والاجتماعية حينذاك. فقد كانت لوحاته تعكس مجموعة من الأوضاع التي ميزت العراق وكذلك الشعارات التي كانت مطروحة على الساحة السياسية العراقية ، والتي وجدت تعبيرها في لوحات رمزية تعبر عن سقوط العراق تحت وطأة اخطبوط الاستعمار وأذنابه ، وعن دور الإقطاع وتسلطه على المجتمع واستغلال الفلاحين الفقراء المنتجين للخيرات المادية ، كما كانت تشير إلى البلايا الثلاث التي كانت منتشرة وتميز بها العراق حينذاك: الفقر والجهل أو الأمية السائدة والمرض ، لاسيما في أرياف العراق وبين النساء. كما تجلت في لوحاته الرمزية في اوائل الخمسينيات من القرن العشرين أوضاع فلسطين المأساوية وتقسيمها إلى دولتين وإدانته للصهيونية ، باعتبارها فكر قومي يميني متطرف واستعماري.
وضمت لوحاته نقداً شديداً للجامعة العربية متأثراً بقريب من العائلة وبمضامين مونولوجات المونولوجست المميز عزيز علي التي اتهم فيها الجامعة العربية بأنها عجزت عن لملمة العرب وبلدانهم: منه منه كله منه مصائبنا وطلايبنا كله منه .. والعتب على جامعتنه ، جامعتنا الما جمعتنا لمتنة”.
لقد تعرفت على أفكار حميد العطار في فترة الدراسة المتوسطة عن قرب ، إذ كنت أحد نشطاء أتحاد الطلبة العام الذي تأسس في نيسان عام 1948 في ساحة السباع ببغداد ، ومن ثم  أحد نشطاء الحزب الشيوعي العراقي في تلك الفترة ، ولهذا يمكن القول بأن حميد قد تبنى حينذاك رؤية وأفكار الحركة الوطنية العراقية والفكر القومي العربي في مناهضة الاستعمار والإقطاع وإسرائيل وضد سياسة الحكومات العربية التي ضيعت فلسطين في حرب عام 1948.
في فترة الدراسة المتوسطة والثانوية أبدى حميد اهتماماً كبيراً بالرياضة وشارك في مسابقات رياضية كثيرة لاسيما في الملاكمة وفي كرة المنضدة وفاز فيهما متفوقاً على أقرانه اللاعبين ، إضافة إلى ممارسته رياضة الكمال الجسماني والحفاظ على لياقته البدنية. كما أبدى اهتماماً استثنائيا بالفن التشكيلي (الرسم) ، وشارك في معارض فنية مدرسية مع أقرانه من التشكيليين. لقد كان حميد فناناً تشكيلياً موهوباً بالفطرة ، صقلها فيما بعد في بغداد أثناء دراسته في كلية الحقوق وبدعم ملموس من الفنان التشكيلي الأستاذ عطا صبري ، ومن ثم في جامعة الفنون الجميلة في برلين الغربية بعد هروبه من بغداد عام 1963 ، وكذلك أثناء إقامته ودراسته في جامعة القاهرة حيث منح فيها شهادة دبلوم في النقد الفني ، بعدها غادر إلى بريطانيا وعاش فيها حتى وفاته.
كان حميد يسبقني بصفين دراسيين ، تميز بالنكتة والفكاهة والمرح والمشاكسة الصفية مع بعض المعلمين ، وكان يشاركه في ذلك التلميذ حينذاك صباح جمال الدين (دكتوراه طب) ، وكانا في صف واحد. نشأت لهما مشكلة في المدرسة ، فتقرر معاقبتهما ، وحين خرجا من لجنة المحاسبة ، سؤلا ما الخبر ، فأجابا بلسان واحد وكأنهما متفقان: حكم علينا بالإعدام وبعد الإعدام أسبوعين فصل من المدرسة!! غالباً ما كنا نذهب مع زملاء لنا إلى بساتين كربلاء المشهورة بأشجار النخيل والتوت والرمان والحمضيات الشهية وكثير من أشجار المشمش والگوجة (البرقوق) لنسرق ما يمكن أكله مباشرة دون موافقة صاحب هذا البستان أو ذاك ، ولم يكن سهلاً علينا نحن الصبية ، ولكن كانت فيها متعة خاصة لنا في معاكسة بريئة لأصحاب البساتين ، إذ كان علينا الهروب بأقصى ما يمكن قبل اللحاق بنا ، إذا ما أحَّسَ البستاني بوجودنا واحتمال معاقبتنا بعصاه. وكانت جولاتنا هذه منعشة لنا ، إذ بعدها نرمي بأنفسنا في نهر الحسينية للسباحة في عز الصيف اللاهب.
كانت لقاءاتنا في مرحلة الصبا كثيرة ، لاسيما في العطل الصيفية ، حيث كنا نقضي اوقاتاً جميلة في الحديقة الواسعة المليئة بأشجار الحمضيات وسوابيط العنب (العريشات) في معمل طحن الحبوب وإنتاج قوالب الثلج بكربلاء العائد لوالدي وجد حميد. وكانت إحدى ألعابنا هي المنافسة: من يستطيع حمل نصف قالب ثلج كبير على ساعديه من المعمل حتى دارنا في محلة باب النجف دون توقف ، وهي مسافة تبعد قرابة 3 كم ، أو كنا نضع الرقي (البطيخ الأحمر) في حوض الماء المالح (الشورة) لصنع قوالب الثلج لتبرد ونقطعها نصفين ثم نتسابق من ينتهي من أكلها أسرع من غيره برغم برودتها القاسية. وهكذا وقعنا في ظاهرة الأكل السريع في جميع وجبات طعامنا لاحقاً ، أو المراهنة على تقدير عدد النُوى (البذور) المحتملة في فاكهة الرارنجة الواحدة. كان حميد سريع الحركة وكانت تسبب له بعض السقطات على الأرض ، وكان من عادة الصبيان ، وأنا منهم ، الضحك في مثل هذه الحالة المزعجة ، فكانت تثير حميد جداً ويبدأ باللعن ، ثم نبتعد عن بعضنا بزعل لا يستمر أكثر من دقائق معدودات ثم نعود إلى صفاء علاقتنا الحميمة. امتلك حميد صوتاً جميلاً ، وكان كثيراً ما يردد لنفسه أو بيننا أغاني عراقية أو أغاني فيروز وعبد الوهاب وفريد الأطرش ، وكانت أزقة وحيطان “عگد النصارى” ببغداد شاهد على حسن صوته في الليالي حين يعود متأخراً إلى الغرفة التي سكن فيها أثناء الدراسة وتكون الأزقة خالية من المارة.
في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات كنا ، حميد وأنا ، نترك كربلاء بصحبة والدي الحاج حبيب العطار إلى الكاظمية ، حيث كان الوالد شريكاً في معمل لإنتاج قوالب الثلج يقع في أراضي النواب ويمارس إدارة المعمل أيضاً. وكنا ننام في المعمل ذاته. حيث كنا نستثمر وقتنا للذهاب إلى بغداد ومشاهدة الأفلام الجديدة. وكان حميد في هذه الفترة مولعا بنقل صور فنانات هوليود الشهيرات في فترة الخمسينيات بحجم يصل بـ 80 x 80 سم. وأبرز تلك الوجوه التي رسمها بالباستيل كانت اليزابيث تايلور وأودري هيبورن وصوفيا لورين… كان يضع ستاند الرسم أمام بوابة المعمل وبجواره أقلام الباستيل ويبدأ بالرسم. كان يجد الاندهاش والترحيب والتشجيع من عمال المعمل والمارة ، ولكن ليس بالضرورة من الجد ، رغم إعجابه بقدراته الفنية على تحقيق الشبه. عرف حميد في الخمسينيات برسمه للأسواق الشعبية بكربلاء وبغداد ، وكان مولعاً برسم الخريف بألوان أوراق الأشجار الزاهية والمتساقطة على الأرض بفرشية ألوان أورق الخريف المنعشة.

فترة الشباب والنضوج الفكري والسياسي

كان حميد شاباً وسيماً أسمر السحنة ، متوسط القامة ، عريض المنكبين ، مفتول العضلات وقوي البنيان ، فاحم شعر الرأس كثيفه ، وله عينان سوداوان واسعتان وشنبان خفيفان ، وكان شديد النظافة وأنيقاً في ملبسه وهندامه محبوباً لدى عدد غير قليل من بنات كربلاء ، إنه الحب العذري الرومانسي ، بل حتى بعيداً عن اللقاءات بين الإناث والذكور ، فهو حب عن بعد لا يغني ولا يسمن ، لكنه يرضي النفس البشرية وربما دون ان يعرف به الطرف الآخر! ورغم الطقوس القاسية في اللقاء بين الإناث والذكور ، كان الحب يجد طريقه إلى قلوب الشبيبة حتى في المدن التي تُحرِّم مثلا هذه العلاقات البريئة بين الصبية والشباب. إلا إن هذا النوع من التحريم كانت له آثاره النفسية السلبية العميقة غير القليلة على الجنسين ، كما أن القاعدة العامة تقول “الإنسان حريص على ما منع!”. 
بعد انتقال حميد العطار إلى بغداد حصل تحول فكري وسياسي بارز لديه نتيجة نشوء علاقات جديدة له مع مجموعة من الفنانين التشكيليين الشباب الذين كانت لهم علاقات مع الحركة الوطنية والحزب الشيوعي العراقي. كما أن دراسته في كلية الحقوق وتعرفه على النشاط السياسي لطلاب الكلية وإضراباتهم في تلك الفترة التي اتسمت بالحراك السياسي النشط والمناهض للاستعمار والأحلاف العسكرية وضد مراسيم نوري السعيد المعادية للحياة الديمقراطية والدستور العراقي وحقوق الإنسان ومساهمته فيها ، في فترة الخمسينيات التي تكللت بإسقاط الملكية وحكم البريطانيين والإقطاعيين والكومبرادور والمحافظين ، سيما نوري السعيد وصالح جبر وحزبيهما الدستوري والأمة الاشتراكي في ثورة 14 تموز عام 1958. كما كانت له علاقة طيبة مع الأستاذ عبد الرزاق الصافي ، من شيوعيي كربلاء الأوائل ، الذي كان يدرس في كلية الحقوق أيضاً ، ونشأت بينهما علاقة سياسية حينذاك. وأثناء وجودي في بغداد وقبل اعتقالي وسجني أقمت لحميد في عام 1955 علاقة حزبية مع المناضل الشيوعي الذي استشهد في قصر النهاية في عام 1963 في أعقاب انقلاب شباط الدموي ، الشهيد البطل حسن عوينة مع مجموعة كبيرة من قادة الحزب الشيوعي العراقي وكوادره وأعضائه ومن الحركة الوطنية العراقية. وكان حسن عوينة يعمل كاوياً في محل صغير مستقل في صوب الكرخ ببغداد قرب السفارة البريطانية. وقبل ذاك كان مسؤولاً عني حزبياً في مدينة كربلاء ، وهو من أبناء النجف الأذكياء والشجعان ، كما تسنى لي إقامة علاقات حزبية جيدة بعدد من الفنانين التشكيليين الذين كنت أوفر لهم أدبيات الحزب الشيوعي ، ومنهم الفنان التشكيلي الفقيد كاظم حيدر وفنان السيراميك فريش قبل مغادرتهما العراق للدراسة في لندن. 
في بغداد عشنا لفترة زمنية سوية في دار استأجرتها في الكرادة الشرقية جوة (الزوية). وكنت عضواً ناشطا في تنظيمات الحزب الشيوعي السرية حينذاك. كان حميد منشغلاً بعد نهوضه من النوم برسم لوحات بألوان زيتية ، ثم كان يذهب إلى غرفة المحامين وفي المساء يلتقي بصحبه ، ثم يعود لينهمك في الرسم ايضاً. لهذا لم نكن نلتقي ألّا في الصباحات وعلى وجبة الفطور المشتركة. لقد رسم حميد لوحات كثيرة في هذا المشتمل بحديقته الجميلة وتحت سيباط العنب. وكنت معجباً بلوحاته وأبقى أتمعن بطريقة مزجه للألوان وما ينتج عنه من ألوان أخرى يستخدمها بفراشته وضرباته القوية ، الواثقة ، السريعة والرشيقة. وقد اعجبتني لوحة رائعة وأخاذة رسمها وهي تجسد فصل الخريف في حديقة الشقة التي كنا فيها ، أهداني إياها. وقد صادرها جهاز الأمن العراقي في عام 1978/1979 من دارنا في حي الفردوس ببغداد الذي صودر أيضاً حينذاك.
لقد كان حميد كثيف الإنتاج ، وكان يعود أحياناً للوحاته ليجري إضافات أو تعديلات محدودة عليها. لقد كانت أمه تحذره من مغبة وعواقب كثرة الرسم خشية فقدانه لبصره ، كانت تناديه “عيني أبني حميد عيونك تتلف ، دير بالك أبني”. هكذا كنت أسمعها أحياناً ، إذ ما زال صوتها يرن في أذني. إذ بدأ حميد يشكو مبكراً ويلاحظ نشوء مزيدٍ من القشرة في جفنيه ويعمل على إزالتها برأس سلاية (ريشة) قلم حبر سائل (پاندان).
كانت لحميد علاقات اجتماعية واسعة وكثرة من الأصدقاء في محلة العباسية ، كما كانت له علاقات مع بعض الطلبة الذين كانوا يزورن كربلاء من بغداد ، ومنهم الفنان والشاعر والخطاط صادق الصائغ ، لاسيما في فترة عاشوراء أو في أربعينية الأمام الحسين. كنت أشاركه هذه اللقاءات في ركن الشارع الذي فيه دار النائب العراقي في العهد الملكي سعد عمر ، ومع أخيه فاضل عمر وقبالة دار الاقتصادي البارز والمميز الدكتور عباس النصراوي. وكانت أحاديثنا عموماً اجتماعية وأحياناً سياسية وتدور عن هذه الطقوس التي تمارس في فترة عشرة عاشوراء وأربعينية الحسين وتحول المدينة إلى مهرجان عالمي يتحدث الزائرون للعتبات بعشرات اللغات. وكنت أقوم بإيصال أدبيات اتحاد الطلبة والحزب الشيوعي العراقي لهم. كان هذا في النصف الأول من العقد السادس.
وفي بغداد كانت مجموعة من الفنانين التشكيليين الشباب التي كانت تلتقي في الأمسيات في مقهى ياسين في شارع “أبو نواس” بشكل يومي تقريباً ، وكنت أشارك حميد بعض هذه اللقاءات ، لاسيما في عام 1955 ، تعرفت خلالها على مجموعة طيبة من الفنانين التشكيليين وبعض العاملين في المتحف العراقي ، منهم على سبيل المثال لا الحصر كاظم حيدر وارداش كاكافيان ومحمد مهر الدين وعيدان الشيخلي وماهود أحمد وفنان السيراميك فريش وغيرهم.

 الفنان حميد العطار في الشتات العراقي

من أجل التعرف على الفنان حميد العطار وفنه لا بد من الإشارة إلى الظروف السياسية والاجتماعية والفكرية التي رافقت حياة وعمل هذا الفنان وعلى مدى الفترة الممتدة من نهاية الأربعينيات من القرن العشرين حتى وفاته عام 2016. لقد كانت فترة فوران ثوري شعبي وحركة سياسية معارضة نشطة في مواجهة نظم سياسية غير ديمقراطية ، كالعهد الملكي ، أو نظم سياسية استبدادية ودموية وفاشية كما في أعقاب انقلاب شباط 1963 حتى سقوط الدكتاتورية عام 2003 ، ثم قيام نظام سياسي طائفي فاسد على أنقاض دكتاتورية البعث ، رفضها حميد كلها وتصدى لها بلوحاته وأعماله الفنية الغزيرة. لقد كان شخصية ثورية متمردة بهدوء على التقاليد والعادات البالية وعلى الجمود الفكري والسكون الاجتماعي ، فوجد ذلك تجسيده البارع في لوحاته ، سواء الزيتية منها أم تلك التي مزج فيها بين فني الرسم والنحت ، كما في عشرات من لوحاته خلال العقود الخمسة التي انتهت بوفاته. وفي فترة حياته وفي أوساط الفن العراقي برز عدد كبير من الفانين التشكيليين والفنانات التشكيليات الذي مارسو الرسم أو النحت وفق المدارس الفنية المعروفة في جميع أنحاء العالم ، كما في المدارس الرمزية والتعبيرية والانطباعية والرومانسية ، ومروراً بالواقعية (الاجتماعية الحديثة) ، إلى التكعيبية والسوريالية.. إلخ. 
درس حميد فن الرسم في كلية الحقوق على يد الفنان التشكيلي الأستاذ عطا صبري ، إذ كان محاضراً فيها ، وكان حميد محباً لفنه ومعجباً بشخصه ، حيث كنت أزوره أحياناً في مرسم الكلية بوجود الأستاذ عطا صبري. وقد برز حميد في تلك الفترة برسم الطبيعة والأسواق الشعبية العراقية والسجاد اليدوي ، كما اهتم بوضع تخطيطات (سكيچات) لتشريح وجوه وأجزاء جسم الإنسان لإتقانها.
بعد تخرجه من كلية الحقوق مارس حميد العمل في المحاماة وكان عضواً في نقابة المحامين ، كما عمل كاتب عدل في قضاء الهاشمية التابع للواء الحلة (محافظة بابل حالياً) ، وفي مناطق مختلفة من العراق. تعرف حميد عبر الدراسة القانونية والعمل في المحاماة وكاتب عدل. وعبر تنقلاته بين المدن والمناطق الريفية طبيعة عمله ، تعرف عن قرب على حياة المجتمع العراقي في المدينة والريف وعلى حياة العائلات الفقيرة والكادحة التي منحته حساً شعبياً وطنياً واجتماعياً مرهفاً وتلمساً مباشراً لغياب العدالة الاجتماعية ، والفجوة الكبيرة المتسعة بين الغنى والفقر ، بين المناطق والمدن والمحلات المزدهرة وتلك البائسة والفقيرة التي وجدت تعبيرها في لوحاته. كما تعرف عن قرب على حياة النساء اللواتي فقدن حريتهن بسبب هيمنة الذكور عليهن وإخضاعهن لإرادتهم وفرض الزواج عليهن بغض النظر عن إرادتهن أو حبهن لغير الزوج المفروض عليهن ، وما صاحب ويصاحب ذلك أو ينشأ عنه من مشكلات اجتماعية تعرَّفَ عليها حميد عن قرب شديد وما اقترن ويقترن بها من قتل لـ”غسل العار!” أو “تطهير الشرف!!”. لقد عاشها ككاتب عدل وكمحامي في المحاكمات وكإنسان له علاقاته الإنسانية وكفنان له أحاسيسه المرهفة.
تميز حميد منذ بداياته الأولى بانتقاله من مدرسة فنية إلى أخرى ، من المدرسة الرمزية التي تجسد مشكلات الجهل والأمية والاستعمار والإقطاع بلوحات رمزية ، كما نجدها في قصص كليلة ودمنة تفادياً للرقيب ، ومن ثم إلى المدرسة الانطباعية ، ومنها إلى المدرسة الواقعية الحديثة والهم العراقي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بشكل خاص. كما استلهم واستوحى في لوحاته التراث الحضاري العراقي السومري والبابلي والآشوري ، وتبلور في النهاية بلوحات فنية رائعة هي مزيج من فن الرسم وفن النحت بالجبس أو الطين وأشياء أخرى… لوحات كبيرة ملأت شقته الصغيرة في منطقة تقع على مقربة من العاصمة لندن. لقد لعبت الدكتاتوريات الغاشمة والسجون والقسوة والموت المستمر في العراق والحروب والبؤس والفاقة لجماهير واسعة ، رغم ثروة العراق النفطية والغازية ، دورها الصارخ في لوحات حميد العطار ، في مضامينها واشكالها وألوانها ، على امتداد الفترة التي بدأت مع انقلاب شباط 1963 وكل العقود التي جاءت بعده ، حتى وفاته في عام 2016. لقد كان حميد العطار إنساناً وفناناً واقعياً شديد الحساسية لقضايا الوطن والشعب ، لاسيما أوضاع الكادحين والمعدمين والنساء. استخدم الرمز والتراث لواقع قائم وحاضر يومياً في حياة الناس ، رافضاً هذا الواقع ومتمرداً عليه وراغباً في تغييره. لقد استطاع حميد أن يكَّون أسلوبه الفني أو طريقته الخاصة ، وهي غير منفصلة عن تاريخ وتراث وحضارة وادي الرافدين وعن التلاقح الفني بين المدارس الفنية العالمية والعراقية ، بل وفي عمقهما التراثي والحداثي. كما نلاحظ ذلك بالنسبة لفنانين مثل جواد سليم وفائق حسن وعطا صبري وحافظ الدروبي وإسماعيل الشيخلي وكاظم حيدر وفيصل لعيبي ومحمد مهر الدين وماهود أحمد وليلى العطار وشمس الدين فارس والنحات محمد غني حكمت …الخ. كتب الفنان جميل حمودي نقلاً عن الفنان سعدي الكعبي حول لوحات حميد ما يلي: “تذكرت اعمال الفنان العراقي حميد العطار والذي عالج مواضيع مختلفة تستوحي الحضارات العراقية القديمة من سومرية وبابلية وآشورية. وخطرت ببالي الحضارات. لكني خرجت من تلك المضامين الحضارية المذكورة لدعم أسلوبه ولم يتردد من اخضاع تلك المضامين الحضارية المذكورة لدعم أسلوبه ولم يتردد من اخضاع تلك المضامين الى ظروفه الابداعية الخاصة. ولم يتساهل في استعارة الملامح التقليدية المعروفة في تلك الحضارات الا اللهم ما شعر بضرورته للتأكيد على الهوية ولتثبيت الطابع التاريخي والوثائقي لعمله الفني.”. (راجع: الفنان سعدي الكعبي ، موقع الفنان ، باريس في 30 أيلول/سبتمبر 1986). 
أُجبر حميد على مغادرة العراق للمرة الأولى عام 1963 خشية الملاحقة والاعتقال على أثر انقلاب شباط الفاشي ، ووصل برلين بألمانيا في الشهر الثالث حيث كنت أدرسُ فيها ، وسكن معنا في شقتنا. وبعد شهور عدة انتقل إلى برلين الغربية وعاش فيها حتى عام 1967 حيث عاد إلى العراق وفتح مكتباً للمحاماة قرب ساحة النصر ببغداد. فقد كوَّن حميد علاقات واسعة مع أفراد في الجالية العراقية البرلينية ومع الألمان. شارك في الحضور والاستماع لمحاضرات في علم الفن التشكيلي (الرسم والنحت) من الناحيتين النظرية والعملية في جامعة الفنون في برلين كما شارك في استخدام مرسم الجامعة ، بعد أن تعرفوا على قدراته الفنية وما قدمها لهم من لوحات رسمها في برلين ولم تعد بين ايدينا. لم يُقبل في الجامعة بسبب عدم امتلاكه اللغة الألمانية ، رغم تقييمهم العالي للوحاته الفنية التي عرضها على لجنة المقابلة. لقد انكبَّ حميد العطار في هذه الفترة على الدراسة العلمية للمدارس الفنية والفنانين الأوروبيين من خلال زيارته للمعارض الفنية التشكيلية ، كما كان الزائر المستمر للمتحف الألماني (متحف بيرغامون Pergamonmuseum) الذي يحتوي على كمية كبيرة من تراث العراق الحضاري البابلي والآشوري وكذلك الفرعوني والإغريقي والإسلامي على نحو خاص. وسعى في هذه الفترة وما بعدها إلى تكوين نفسه نظرياً. وقد زاره أكثر من فنان تشكيلي في برلين وقضى معهم أوقاتاً ممتعة في زيارة المتاحف والمعارض ومنهم الفنان كاظم حيدر. وأتذكر في حينها أن كاظم حيدر قد أرسل لي من لندن مسرحية جميلة كتبها بعنوان “حسين بن زين” تدور أحداثها عن الملك حسين ودوره في العراق ، التي ، كما أشار ، بأنها مثّلها عراقيون وعراقيات في جمعية الطلبة العراقيين في المملكة المتحدة بمدينة لندن.
في عام 1967 عاد حميد العطار إلى العراق واستأجر غرفة في أرض تابعة لعائلة كمال الدين جعل منها مكتباً للمحاماة قرب ساحة النصر ، حيث أصبح المكتب ملتقى عدد كبير من الفنانين الديمقراطيين واليساريين ، حيث كنت أزوره وأنعم بصحبتهم ونقاشاتهم حول الفن ومعارضهم وشقشقاتهم وقفشاتهم الفنية ونكاتهم المتبادلة ، إضافة إلى التعبير عنها سياسياً. لقد كان بواقع الحال صالوناً للفن أكثر من منه مكتبا للمحاماة ، ولكنه كان مصدر عيشه أيضاً. 
حين وصل حزب البعث إلى السلطة ثانية في عام 1968 عبر انقلاب القصر العسكري توجس حميد شراً كبيراً وصدق حدسه. إلا أنه لم يغادر العراق واستمر يعمل في مكتبه رغم اشتداد الوطأة على كل الشعب العراقي ، كما واصل ممارسة الرسم وإنجاز لوحات جديدة متأثراً بأوضاع العراق المتزايدة سوءاً حينذاك.  ففي كانون الثاني/يناير 1980 أقام حميد العطار معرضه الشخصي على قاعة الرواق ببغداد. وقد كتب لي ابن شقيقته سميرة مجيد العطار ما حصل في هذا المعرض من إشكالية دفعت به إلى مغادرة العراق. فكتب الأستاذ فواز الصافي رسالة بتاريخ 09/07/2021  بهذا الصدد تضمنت النص التالي:
أقام الفنان حميد العطار معرضه الشخصي على قاعة الرواق في بغداد ، وقد اصطحبنا خالي إنا واخوتي إلى المعرض في يوم الافتتاح. وحضر المعرض وزير الثقافة والإعلام لطيف نصيف جاسم و أثناء جولته في المعرض و التوقف عند كل لوحة و السؤال عن المضامين و الموضوعات التي ترويها اللوحات. عناوين اللوحات قسمت إلى مجموعات عدة لوحات عن گلگامش و أخرى عن عشتار و كذلك عن القضية الفلسطينية (لن نستكين). و عند الوصول إلى مجموعة (الخلاص) وتتكون من خمس لوحات. تجهم وجه الوزير و هو يحدق فيها و كانت احداها تمثل شخص يحاول الجري و رأسه مرفوع و خصلات شعره خلفه و يواجه الريح والجسد ذو بنية قوية لكنه ممزق من جراح كثيرة و ثبتت السيقان بمسامير دقت عل سطح العمل و تدرج اللون الغامق المسود من اسفل اللوحة ليصبح في الأعلى مزيج من الأخضر الفاتح و الأزرق و البرتقالي الخفيف. فما كان من الوزير الا إن يوجه السؤال إلى خالي (هذا في العراق؟ ؟!!) أجاب خالي بصورة مبهمة (أنه عمل تجريدي و كل شخص لديه نظرته الخاصة ويراه من زاوية مختلفة). لم يقتنع الوزير بهذا الجواب (لا .. لا باچر انت و اللوحة تشرحها گدام نقاد بالوزارة). فما كان من زملاء خالي الفنانين و النقاد الحاضرين من تلافي الموضوع بالتعبير عن رأيهم بما يروه و ربطه بالتاريخ و گلگامش ليبتعدوا عن المعنى الحقيقي للعمل و ما فهمه الوزير بالضبط لإخراج خالي من هذه المحنة
أستمر تواجد الوزير لقرابة الثلاث ساعات و كانت هنالك ندوة حوارية بمعية الوزير و كوكبة من الفنانين الحاضرين في المعرض أذكر منهم حافظ الدروبي ، فرج عبو ، اسماعيل الشيخلي ، سعدي الكعبي ، نوري الراوي ، ليلى العطار ، اسماعيل فتاح الترك ، مخلد المختار ، محمد مهر الدين ، علي طالب ، وشاكر حسن.” انتهى نص الرسالة. لم يتأخر حميد إذ أدرك ما ينتظره من حزب ودولة البعث فغادر العراق إلى بيروت. وفي تلك الفترة العصيبة شارك حميد العطار مع صديقيه الفنانين ماهود أحمد وسعد الكعبي في مهرجان كاني سورمير الدولي للفن التشكيلي في فرنسا عام 1980 حيث حاز على الجائزة الأولى للمهرجان. 

غادر حميد البلاد إلى لبنان ومنها إلى سوريا ، فالقاهرة ولندن. وفي دمشق أقام علاقات واسعة من الفنانين التشكيليين السوريين وعمل في مرسم له يقع على فرع من نهر بردى وأنتج لوحات كثيرة ، علمت منه بأن حريقاً شب في شقته أثناء غيابه أتت على عدد كبير من لوحاته الجديدة وتلك التي جلبها معه. التقيت به في دمشق أكثر من مرة وكلما كنت أزور دمشق ، لاسيما أثناء مغادرتي صوب كردستان العراق للمشاركة في حركة الأنصار الشيوعيين هناك. أخبرني بأنه يعتقد بأن سراقاً نهبوا لوحات كثيرة منه ثم أشعلوا النيران ليغطوا على سرقتهم. ولم تفعل الشرطة السورية شيئاً له. كان حميد قد وضع ما يملك من نقود جلبها معه من العراق في مصرف بلبنان وبالليرة اللبنانية ، خسرها كلها تقريباً بعد انهيار العملة اللبنانية أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982 ، وقد عانى من جراء ذلك كثيراً. لقد كانت فترة شؤم له. رسم في هذه الفترة لوحات كثيرة عن القضية الفلسطينية وعن النضال ضد عدوانية السياسة الإسرائيلية وغزو جنوب لبنان عام 1978 ومن ثم عام 1982 وما بعدها. غادر لبنان في عام 1983 إلى سوريا وعاش في دمشق ردحاً من الزمن ، وكان يتابع الأحداث السياسية ويواصل الرسم. وفي حينها ساند مواقف حزب الله اللبناني ضد النهج العدواني للسياسية الإسرائيلية ، وتفاعل كثيراً مع الشابة اللبنانية سناء محيدلي ذات الستة عشر ربيعاً التي فجّرت نفسها داخل عربة كانت تقودها استهدفت قافلة عسكرية إسرائيلية بتاريخ التاسع من نيسان عام 1985. وكانت هذه الشابة تعمل مع حزب الله اللبناني ، مما جعله يمدح هذا الحزب ودوره في مواجهة إسرائيل. وقد وجدت هذه الحادثة تجلياتها في أحاديثه وربما في بعض لوحاته عن المرأة وعن فلسطين التي كانت تؤجج لديه مشاعر كثيرة. كان حميد سريع الانفعال والتفاعل مع الأحداث السياسية الجارية ويتخذ بشأنها موقفاً سريعاً ومستقلاً على وفق ما يقرره ضميره وأحاسيسه المباشرة وعاطفته الجياشة ، سواء أكانت تحمل معها أخطاءً سياسية أم مواقف صائبة. وهو ما كنت أحياناً أناقشه فيها ونختلف بشأنها ، لاسيما موقف الشابة سناء محيدلي ، فأنا ضد تفجير الإنسان لنفسه أياً كان السبب وضد أيٍ كان.
بعد مغادرته العراق بقي حميد كثير الصلة بأمه وأخته سميرة ، زوجة المهندس المدني الفقيد عبد اللطيف جميل الصافي وأبناء وبنات أخته فارس وفواز وغادة وميادة . لقد كان يدرك التضحية الكبيرة التي قدمتها أمه لرعايته ورعاية أخته سميرة ، ولهذا كان حريصاً على الاهتمام بها ورعايتها قدر المستطاع. لم يتزوج حميد رغم كل المحاولات التي بذلتها أمه وأخته لتزويجه أو اختيار زوجة له ، إذ رفضها كلها وأصر على عدم الزواج. لقد أراني في حينها مجموعة من صور فتيات جميلات أرسلتها له أمه ترجوه أن يختار واحدة منهن لتخطبها له. فضحك وقال تصور يا كاظم إنها تريد تزويجي بشابة يتراوح عمرها بين 18–25 سنة ، وفاتها أني في أواسط الخمسينيات من عمري بل وأكثر ، هكذا هن الأمهات نبقى أطفالاً وصبية بالنسبة لهنَّ. لقد كان حميد بطريقته الهادئة وعلاقاته الحميمة بالناس وجرأته وفنه المميز قادراً على إقامة علاقات اجتماعية شفافة وكان محبوباً من النساء ومرغوباً به. ولكن لم تلعب العلاقات النسوية لحميد أي دور في لوحاته الفنية بل تكرست كلها لمواقف إنسانية عميقة وحضارية وتقدمية إزاء المرأة ووضعها الصعب جداً في المجتمع الذكوري العراقي المتخلف.
درس حميد العطار النقد الفني في جامعة القاهرة وحاز على شهاد دبلوم فيها. أقام علاقات واسعة مع الفنانين التشكيليين والنحاتين المصريين في القاهرة. اطلع على التراث الحضاري المصري الكبير ودرس أساليب الرسامين والنحاتين المصريين ومدارسهم في الرسم والنحت. وقد تجلت ثقافته الفنية المتطورة والمتقدمة في المقابلات الفنية الصحفية التي دعي لها أو في المقالات القليلة التي كتبها في مجال الفن على حسب علمي ، وفي اللوحات الفنية الحديثة التي بدأ بها بعد مغادرته القاهرة إلى لندن حيث برز خصبه الفكري واتساع آفقه وتنامي خياله الفني وإيحاءاته الحضارية المتجلية في لوحاته الجديدة التي مزج فيها بين فني الرسم والنحت والتي كان قد بدأ بها في بغداد في السبعينيات من القرن العشرين.
لقد عاش حميد حياة الوحدة والغربة وفي الآونة الأخيرة حياة بوهيمية وزهد كبيرين ، ولكنه كان قد استبطن العراق كله واستنشقه دوماً ، فنه وتراثه وحضارته ، وقبل هذا وذاك عشق شعبه ووطنه وعائلته ، أمه واخته وبناتها وأبنائها. لقد كان حميد شديد الحب والولع بعائلته الصغيرة التي يعتبرها جزءاً عضوياً من عائلته الكبيرة شعب العراق بكل قومياته.
لقد كان حميد شديد التعلق بالمضطهدين والمحرومين والمسجونين من النساء والرجال ، بضحايا الاستبداد والقسوة والحروب والاغتيالات ، لقد كان نصير هؤلاء جميعاً ونصير الفقراء والمعدمين والأرامل واليتامى. وكان في الوقت ذاته ضد العنصرية والصهيونية وضد الاستعمار والقهر والاستغلال والتعصب القومي والديني والمذهبي ، لقد كان حميد مخلصاً للمبادئ والقيم التي أمن بها واقتنع بها في بداية شبابه ونشوئه الفكري والفني والاجتماعي والسياسي ، رغم كونه لم يكن في نهاية حياته نشطاً في السياسة بسب  بعض الأمراض المرهقة التي اتعبته من الحركة والانتقال. 

الفن التشكيلي لدى حميد العطار

لقد قاده اطلاعه على الفنون العراقية التراثية وحياته الاجتماعية ودراسته القانونية ومشاركته في الحياة السياسية إلى اعتبار الفن التشكيلي له مهمة اجتماعية كبيرة ، فهي ليست هواية فحسب ، بل هي حرفة أصيلة ومتقدمة وذات أهداف ومهمات إنسانية عميقة عامة وشاملة في مضامينها وقيمها وأبعادها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وقد رافقته هذه الرؤية طيلة حياته الفنية ابتداء من الستينيات من القرن الماضي حتى أخر لحظة من حياته حين زرته في المستشفى ونقلناه منها إلى شقته الصغيرة المكتظة بلوحاته خارج لندن. ينتمي حميد العطار إلى جيل الستينيات للفنانين التشكيليين الذي أعقبت جيل الخمسينيات ، جيل الرواد الأوائل ، الذي برز فيه أولئك الكبار مثل فائق حسن وجواد سليم ومحمود صبري وعطا صبري وحافظ الدروبي وإسماعيل الشيخلي وفرج عبو.. وبهذا المعنى فقد كان حميد فناناً ومثقفاً عضوياً هادفاً وراغباً لا في معرفة وفهم وتحليل وتفكيك وتفسير ما يراه ويرسمه أو ينحته ، بل كان يسعى أيضاً إلى تغيير الواقع الذي مازالت أجزاء كثيرة جداً منه تعاني الأمرين من الاستبداد والقسوة والظلم والاضطهاد والاستغلال الرأسمالي والفقر والجوع والحرمان ، إضافة إلى الحروب الإقليمية والأهلية والموت الواسع وسباق التسلح ومخاطره النووية على البشرية جمعاء. لقد أدرك حميد المخاطر التي تواجه البشرية وشعب العراق كجزء منها ، فتجلت في لوحاته ذات المضامين الإنسانية النبيلة.
لقد درس حميد التراث الحضاري العراقي وملاحمه الأدبية الشعرية وأساطيره وصراع الآلهة في العالمين العلوي والسفلي ، الذي هو تجسيد لواقع الصراع الدائر فعلياً على الأرض والتعبير عن التناقضات الجارية في المجتمع البشري. ويمكن أن يتلمس المتتبع ذلك في لوحاته الرائعة التي رسمها في قراءته لبعض أهم أحداث ملحمة گلگامش وبمستويات أو طبقات عديدة وجدت واقعها في شعر أو أدب تلك المرحلة وفي ملحمة گلگامش ذاتها ، حيث كتب العلامة طه باقر يقول:
” والعادة في الشعر البابلي ، كما في قصة الخليقة البابلية وملحمة جلجامش ، أن القصيدة فيه تنقسم إلى وحدات تكون الوحدة منها من بيتين من الشعر (دوبيت)  ، والغالب يكون معنى البيت الثاني أما مغايراً لمعنى البيت الأول أو مشابهاً له أو مكملاً له. وقد تؤلف في بعض الأحيان أربعة أبيات في القصيدة وحدة في المعنى ، فتكون مثل هذه القصيدة مجموعة من الرباعيات.”. (أنظر: طه باقر ، ملحمة گلگامش ، منشورات وزارة الإعلام – الجمهورية العراقية ، سلسلة الكتب الحديثة (78) ، بغداد- 1975 ، ص 12).
وفي الختام سأحاول تلخيص بعض أبرز سمات الفن التشكيلي ، فن الرسم وفن النحت ، في أعمال الفنان الرائد المعاصر والفقيد حميد العطار في ضوء ما كتبه بعض الفنانين والنقاد بهذا الصدد. سأجرب ذلك في محاولة مني للابتعاد عن الخوض في تحليل تفاصيل لوحاته المميزة التي لا أقوى عليها ، وأنا أقف في الغالب الأعم مندهشاً أمامها ، مسروراً بها ومفكراً بما تحمله من عمق وتنوع في مضامينها ، وروعة وخلق جديد في تكويناتها ، وإبداعات في خلط ألوانها للوصول إلى ما يريد من ألوان مناسبة ، وما تنشده من إيحاءات استثنائية تراثية ومعاصرة في أشكالها ، بشراً وأشياء ، سواء رصفت أو بعثرت على مساحة اللوحة الواسعة ، مكسورة وحزينة أو متمردة ، خانعة أو متحدية ، خيرّة أم شرّيرة. كانت لحميد بصيرة وبصر نافذين ومفعمين بالثقة بالنفس وما ترسمه ريشته أو في تعامله مع المواد الخشنة ، ومنها الجبس والطين والخشب ، وما يحمله من قناعات فكرية واجتماعية.     

أرى بأن أبرز السمات التي ميّزت الفنان حميد العطار ولوحاته منذ سبعينيات القرن العشرين حتى وفاته بما يلي:

** غوصه العلمي والعاطفي في عمق التراث والحضارة العراقية الأصيلة وفنونها المختلفة ، بما فيها فن النحت والشعر والملاحم والأساطير ، وفهمه المعمق لها ودورها في صراعات المجتمع والسلطة قديماً وحديثاً وتجلياتها على حياة الفرد اليومية. كتب الناقد الفني صلاح عباس بهذا الصدد يقول:
“حفظت ذاكرتي ملامح الاعمال الفنية التي كان الفنان الراحل حميد العطار ، يشارك بها في المعارض الفنية في بغداد ، منذ منتصف العقد السابع من القرن الماضي ، فقد كانت تلك الاعمال الفنية مصنوعة بعناية واتقان ضمن صياغات فنية تزاوج بين فني النحت والرسم ، وكان يهم الفنان التأكيد على المواضيع المجترحة من النصوص الادبية في حضارات وادي الرافدين ، بل وكان يكرس جهودا خاصة لمحاكاة الاساطير والقصص والاشعار العراقية في الازمنة السحيقة ، وموضوع ملحمة (گلگامش) ، كان من اولويات بحوثه الفنية ، حتى ان الدكتور العلامة (طه باقر) اختار ان تكون رسومات الفنان حميد العطار معبرا صوريا عن النصوص الادبية التي ترجمها مباشرة عن النصوص السومرية ، وجاءت تلك الرسومات بمثابة تعليقات صورية مبهرة ومثيرة للإعجاب ليس لأنها ترديدا امينا للنصوص ، لأنها ليست وسائل إيضاح ، بل ولأنها ضرب من الفن القائم بذاته ولذاته ، وتتجلى اهمية الرسومات المصاحبة للنصوص الأدبية في كونها سياق تكميلي ليس القصد منه ايضاح الفهم وتقريب المغزى ، بل انها عملية مشاركة ابداعية بين الأديب والفنان والخروج بحصيلة فنية متكافئة ومتعادلة ، من هذا المنطلق فان كفتي الميزان تعادلت بين المبدعين العراقيين الراحلين طه باقر وحميد العطار.” . (أنظر: صلاح عباس ، حميد العطار: أسئلة الفن المستدامة ، موقع الفنان التشكيلي حميد العطار ، أخذ المقتطف بتاريخ 14/07/2021) .
** تعلقه غير المحدود بمبادئ الحرية وضرورات عيش الإنسان في فضاء واسع من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ، ورفضه للاستغلال الاجتماعي والهيمنة السياسية والقهر السياسي والفقر ، إضافة إلى قدسية الوطن وقسوة الاغتراب عنه. وكان حميد في كل ترحاله القسري تأبط وطنه العراق ، على حد قول الشاعر عدنان الصائغ في واحدة من قصائده الملهمة عن الهجرة والاغتراب “تأبط وطناً” ، وحمل هماً عراقياً مستداماً .
كتب الأستاذ جاسم عاصي عن لوحات حميد العطار يقول : “لا يتوارى العطار خلال لوحته  ، إلا خلف دالة فكرية واضحة وذات تأثير مباشر على التفاصيل . فهو يأخذ به كمتن جدلي يُحرك عبره الأجزاء المتظافرة مع الكليات. وما التركيز على الإنسان ضمن حالات ــ الرُعب والانتهاك الجسدي ، كذلك التقارب بين فن الرسم وفن النحت ــ سوى العمل على تجسيد الملامح المتروكة قسراً على الجسد . ولعل هذا تطلب من الفنان تعدد الحالات الدالة على تعدد وتعاقب الأزمنة . وكأنه يقول بخفاء وعلن : حدث هذا ويحدث ، وسوف يحدث في كل الأزمنة ، ما زال الخلل مستشريا في الحياة السياسية والاجتماعية ، وما زالت قاعدة الحياة هشة وقانون التحكم بالوجود والإنسان يرتكز على الأخذ والاستلاب ، دون العطاء.”. (أنظر: جاسم عاصي ، “التجربة الفكرية والجمالية في لوحات العراقي حميد العطار ، موقع القدس العربي ،211 شباط/فبراير 2020).
** دراسته المكثفة لواقع العراق وظروفه السياسية والاجتماعية والاقتصادية منذ فترة مبكرة من حياته واختياره طريق النضال ضد الاستبداد والقسوة بلوحاته وبصراحة ملفتة للنظر وكاشفة عن عورات النظم السياسية الحاكمة وتكريس فنه لصالح الدفاع عن المجتمع والمرأة وعن المبادئ الحية والعدالة التي اعتنقها ودافع عنها في لوحاته . كتب صلاح عباس يقول : “كان الفنان حميد العطار يحرص على وضوح افكاره ويعلن عن انسانيته من خلال عمله كمحامي ورجل حقوقي ومن خلال فنه الذي بقي طي النسيان لسنوات طويلة ، ونعرف أيضا بأن المؤسسات الفنية والثقافية في العراق كانت طاردة للمبدعين الاحرار ، ممن لا يتسايرون مع الواقع الحياتي الفج وانعدام حرية التعبير ، ولأن الفنان ارتضى لنفسه مواقف انسانية مقترنة بالمنحى الفكري والفلسفي والجمالي المختلف تماما عما كان سائدا ، فإنه آثر ترك فسحة البلاد والإقامة في بريطانيا بعيدا عن الوطن ، ويبدو لي بانه حجَّم من علاقاته الاجتماعية ولكن قضايا الوطن والمستجدات السياسية المرتبكة واهوال الاحداث والمفارقات كانت تؤرقه وتعيش معه في كل لحظة ، وكان يتابع الاحداث والمتغيرات التي تجري في العراق اولا بأول ، ويستقصي المعلومات على نحو حثيث وقريب ، ولم لا وهو ذلك الرجل الوطني الذي وثق لتأريخه المشرف بمواقف عديدة وتعرض خلال حياته للمساءلة القانونية واتهم بولائه للأحزاب الوطنية ، وهذا السرد الاولي المختصر مفتاح الفهم لطبيعته الشخصية.” . ((أنظر: صلاح عباس ، حميد العطار: أسئلة الفن المستدامة ، في موقع الفنان التشكيلي حميد العطار ، مقالات. 2019/2020).
** دأب حميد على دراسة مختلف الأساليب الفنية في الرسم والنحت على صعيد العراق والعالم ، وسعى إلى اكتشاف أسلوبه وطريقته الخاصة في الرسم والنحت معاً ، إنه المزج الإبداعي والمغامرة المحسوبة والريادية في هذا النوع من الفن التشكيلي ، فهو الرائد الأول في هذا المجال ، كما عبّر عن ذلك الفنان التشكيلي محمد مهر الدين ، فهو من زملاء الفنان حميد العطار ، كما جاء في المقال المهم للناقد الفني صلاح عباس ، حين ذكر ما يلي:
“إن رائد الحداثة في الفنون التشكيلية العراقية المعاصرة هو الفنان حميد العطار ، لأنه استطاع اختراق تاريخ الفنون التشكيلية من خلال توظيف المواد الخام الجديدة واستثمار طاقة المواضيع المفتوحة التي تقبل القراءة البصرية على انحاء متعددة.”.  (المصدر السابق نفسه).
** لقد امتلك حميد ناصية تقنيات الفن التشكيلي من الجوانب النظرية والعملية ، كما امتلك والخبرة الطويلة  ، فبرع حميد في ملء المساحات الكبيرة في لوحاته  ، وفي مزج الألوان ليصل إلى ألوان مركبة يريدها  ، إلى لون زنجاري غير اعتيادي  ، وأخر بلون التربة أو اللون الشذري  ، وتعرجات الجسم وانفصال الرأس الذي طبع مجموعة من لوحاته والعيون المندهشة او الحزينة أو البائسة أو المتطلعة والمتمردة . أو في توزيع الأجسام على اللوحة بمستويين أو أكثر . كتب الباحث والناقد الفني جاسم عاصي ما يلي: “يأتي توظيف حميد العطار للألوان من قدرته على مزجها بكفاءة وتقدير نِسَبْ ، فهو لا يعتمد اللون مباشرة  ، أو كما هو في تشكله ، وإنما يستخلص من مجموع الألوان لوناً يؤكد على قدرته على التعبير الحيوي عما يفكر به ويراه في الواقع . فهو كفنان يجد في حراك الواقع سبيلاً مختلفاً عن الآخر . فكيف يكون التوظيف إن لم يُحقق الرؤية الذاتية ، لأنها الوسيلة الخالقة للأُسلوب الفني . فهو دؤوب لخلق توجهه الفني شأنه شأن من سبقوه ، مسايراً التجدد والتبدل والمتغير ، كما هو النهر بمائه وجريانه. ” . ( أنظر: جاسم عاصي ، التشكيل بين الفكر والجمال في لوحات حميد العطار ، موقع حميد العطار  ، الفن التشكيل  ، مقالات نقدية) .
** لقد كان حميد ماديَّ النزعة في رؤيته للمجتمع والحياة بصورة عامة. فقد جسَّدَ في لوحاته التناقضات الحياتية والصراعات الجارية وعواقبها أو بعض نتائجها. لقد كان يصنع لوحاته كشاعر متمرس مدرك لعمق اللغة وتشعباتها وغناها ، من جهة ، وقدرة الفن التشكيلي على مجاراة الشعر  ، حيث هما أبرز الفنون التي أبدع فيهما شعب العراق منذ القدم ، إذ يمكن للإنسان أن يقرأها ، وهذا ما تجلى برسومه لملحمة گلگامش التي ظهرت في ترجمة العلامة طه باقر لهذه الملحمة الرائعة. إنسان منهك تحس به من بنية الجسم وسحنة الوجه وتجاعيده وتوزيع أجزائه وحركة الألوان ، أو ذلك الحزن آو الرعب الذي يمنح هيئة الإنسان شكلاً غريباً مبهماً احياناً وصريحاً أحياناً أخرى ، وهي هنا المرأة بعيونها البابلية العراقية ووجهها المليح ، وهي محمولة بالأيدي ومرفوعة الرأس نحو السماء ، أو أنها امرأة مدماة ، أو مقطوعة الأيدي أو مقيدة بالسلاسل… أو رجلاً فاغر الفم ومفزوع العينين ومقيد اليدين والرجلين .. إلخ. كتب الناقد الدكتور جواد الزيدي بهذا الصدد يقول:
 يعمل العطار على تثوير الصلة بين الثنائيات المتقابلة والمتعارضة في الوقت نفسه وأدراك هذا المعنى الناتج عنها (الحضور والغياب ، الالغاء والاعتراف أو الحذف والاضافة) وكل ما يجعل ايقاع توزيع نوافذ الحرب على السطح التصويري يحتوي قيما حسية تتحدث عن الموت وتتحرى أصوله بتركيبتها المقسمة الى مستويات عدة والتي ينظر اليها من مواقع متعددة وهي تواصل الجريان كتدفق مياه الأنهار في واقعها الفعلي  ، ما يضاعف موقع الحلم الذي يتحكم برؤية العطار النهائية لمصير شخوصه في غيابهم وحضورهم وكل ما يجعل تحليل خطابه البصري ينقاد باتجاه الدعوة للخروج من المأساة الباطنة في احداث التأريخ الى حضور الذات الذي يرغب أن تحقق تفاعلا وتواصلا في التحديق الى أعماقها ، بوصفها أعماق العمل الفني الداعي للتحرر في أول مستويات طرحه والداعي أيضا الى الحلم  ، بوصفه استراتيجية للانعتاق ومرجعية بشرية يحملها اللاهوت والاسطورة والماورائيات التي تحقق معنى الصورة التي ينتجها . ينطلق من فعل القسوة على ذاته أو التي يشعر بها كدافع في تجسيد الألم وتصوير عويل الآلام المتأتية من اسلافه السومريين وهم يفتحون عيونهم الى أقصاها حتى تكاد تستدير وهي تبث سلطتها على المخيلة وكأن جملة واضحة عن الحقيقة ستنطلق من بين أهدابها .” . (أنظر : د. جواد الزيدي  ، حميد العطار .. نفاذ إلى عمق الماساة” موقع حميد العطار). 

** شكلت المرأة العراقية جزءاً مهماً من أعمال حميد العطار بسبب واقعها المرّ وحرمانها من أبسط حقوقها وتبعيتها المطلقة للرجل في المجتمع العراقي ونضالها ضد هذا الواقع. ولم يكن جسد المرأة هو الهدف والمغزى في لوحات حميد ، بل كونها ينبوع الحياة وحاملة الهم والمكسورة بذكورية رجلٍ مستفحلٍ ومجتمع أكثر استفحالاً وفكر ديني متخلف في رؤيته للمرأة ودولة أكثر قسوة في قوانينها إزاء المرأة ، امرأة مغتصبة الحقوق والشخصية والكرامة والضحية الدائمة ، رغم دورها الكبير في الحياة وقدرتها على العمل والإبداع وإعادة إنتاج موسعة للبشرية. كما سجل الدكتور جواد الزيدي بصواب رؤيته لموقف حميد من المرأة حين كتب : قد تدفعه صيغ الحياة وازدواج بنياتها الى عدم اغفال صورة المرأة في مجمل تجسيداته الجمالية ، فيرسم نساء عاريات يحملن عثوق التمر وواحدة أخرى منهن  تستلقي على الأرض وتحتضن طفليها على ذراعيها في حين تعلق صورة الشواخص الذكورية  على جدران المكان ، ينطلق من فكرة الخصوبة أو الفحولة المهيمنة على حياة النسوة وصور شجر النخيل ودلالتها  والاشارة الى شجرة الحياة الموحية بالعتق من خلال ألوان الأوكسيد المائلة للخضرة أو الوردية الفاتحة التي تعلن تماثلاتها الانسانية ، لا فرق بين هذا التمثيل أو الذهاب الى استعارة تقانة الرسم أو العودة الى مناخات الفن الرافديني ليجعل لوحته أفاريز نحتية بألوانها البرونزية المؤكسدة تتداخل فيها صورة الأب على الجدار بملامحه الحادة والقاسية بصورة منحوتة لإمرأة في الأسفل تعلوها مجموعة أثداء وكأنها تصف الولادات الجديدة ضمن سلسلة تتابعية للمجايلة وتفعل فعلها في معادلة الحياة القائمة .” . (المصدر السابق نفسه .
رفض حميد العطار في سنواته الأخيرة بيع أي من لوحاته . فقد عرضت عليه إحدى سفارات الدول الخليجية في لندن شراء ثلاث لوحات كبيرة وحديثة منه ، تلك اللوحات التي تمزج بين فني الرسم والنحت ، وبمبلغ كبير حقاً ، رفض بيعها وقال لي بالحرف الواحد في عام 2014 حين التقينا في مقاطعة ستافوردشاير جنوب لندن: “أخويه أبو سامر ، أريد أن تعود لوحاتي إلى الوطن أثناء حياتي أو بعد موتي” لا أن تبقى في مكان آخر غير العراق”.
لقد كان حميد في آخر سنواته يعاني من عدة أمراض مزعجة ، وبشكل خاص من تضخم البروستات التي أبعدته عن السفر وجعلته حبيس المدينة التي يعيش فيها ومراجعة الأطباء . ولكنه لم يفقد الذاكرة ولا حيوية الفكر ، ولكنه بات يعيش في عالمه الخاص وابتعد في آخر سنتين عن الرسم . لقد عاش حميد في سنواته الأخيرة حياة الوحدة الجافة. كانت لقاءاته محدودة بعدد من المعارف والأصدقاء العراقيين من كبار السن في مقهى في وسط المدينة . توفي حميد العطار يوم 21/12/ 2016 في شقته الصغيرة الواقعة في مقاطعة ستافوردشاير „Staffordshire وسط أكداس من لوحاته التشكيلية.
بعد زيارة قمت بها لحميد العطار في شقته واطلعت على لوحاته ، وجهت بعدها رسالة إلى “تيت گالري of British Art  Tate Gallery ” في بريطانيا أشرت لهم بوجود فنان عراقي هو حميد العطار يعيش في بريطانيا قرب لندن وفي شقته تتكدس لوحاته التشكيلية ذات الحجوم الكبيرة والحديثة ، وهو يعاني من امراض عدة. فطلبوا مني اللقاء به ودعوته للحضور أو أن يسمح لهم بزيارته في الشقة. وحين عرضتُ رسالة تيت گالري على حميد العطار اعتذر وقال أشكرك كاظم ، ولكن ليست لدي أي رغبة أو مزاج بنقل لوحاتي لعرضها في هذا الگلري الشهير رغم أهميته ، ولا رغبة لي في زيارتهم لي ، علماً بأن كثرة من الفنانين كانوا يتمنون أن يعرض هذا الگلري أعمالهم الفنية فيه. لقد عاش حميد في سنواته الأخيرة عيشة بوهيمية فلا مكان في غرفته لنومه أو جلوسه بسبب كثرة اللوحات التي تكدست في غرفة النوم والضيوف والحمام والمطبخ وفي الممر الصغير بين الغرفتين . لقد زرته في غرفته ولم أستطع الدخول إلى الشقة إلا بصعوبة كبيرة لكيلا أدوس على لوحاته المرصوفة على الحيطان والمطروحة على الأرض فوق بعضها ، أو الهدايا القديمة (الأنتيكة) التي كان يقتنيها من محلات بيع الأنتيكة ليرسلها هدايا لعائلته في بغداد.
وأخيراً لديَّ كل القناعة بأن ما كتب عن الفنان حميد العطار ، عن أسلوبه في الرسم والنحت وعن مضامين لوحاته وأشكالها وألوانها قليل جداً ، رغم جودة ما كتب حتى الآن ، وأنه سيحظى باهتمام أكبر لاحقاً وحين تدرس بدقة علمية ونقد فني من نقاد فنانين تشكيليين عراقيين وعرب آخرين أو من غيرهم من المختصين بالنقد الفني ، فهو فنان عراقي رائد بمستوى عربي وعالمي يستحق كل التقدير والاهتمام. 

د. كاظم حبيب

برلين عام 2021

حميد العطار

كانت حياة حميد العطار 

حميد العطار

كانت حياة حميد العطار 

حميد العطار

كانت حياة حميد العطار